في مطلع نوفمبر 2025، أعلنت مصر عن واحدة من أضخم اتفاقيات التطوير في تاريخها، بعد توقيع شراكة استراتيجية بين هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وشركة قطرية الديار، الذراع العقارية لصندوق الثروة السيادي القطري، لتطوير مدينة ساحلية كاملة في منطقة علم الروم غرب مدينة مرسى مطروح. الإعلان لم يكن مجرد خبر اقتصادي، بل تحول في لحظته إلى حدث محوري، لأن حجم الصفقة وطبيعتها يشيران إلى فصل جديد تمامًا في مستقبل الساحل الشمالي ومشهد الاستثمار العقاري في مصر.
فالحديث هنا ليس عن مشروع عقاري تقليدي، ولا عن منتجع صيفي جديد، ولا حتى عن مدينة صغيرة. الحديث عن خطة عملاقة تقارب 30 مليار دولار، تتضمن دفعة أولى قدرها 3.5 مليار دولار تُسدَّد قبل نهاية ديسمبر، وهي من أعلى الدفعات الفورية التي تدخل خزائن الدولة لصفقة تطوير واحدة. رئيس الوزراء مصطفى مدبولي لم يبالغ حين وصف المشروع بأنه “واحد من أكبر خطط التنمية في العالم العربي”.
هذا الحجم من الاستثمار، وهذه السرعة في اتخاذ القرار، خلقت حالة من التساؤل: لماذا الآن؟ ولماذا هذه المنطقة تحديدًا؟ وما الذي يجعل علم الروم مركز اهتمام بين مصر وقطر بهذا الشكل؟
مدينة كاملة على البحر المتوسط
منطقة علم الروم تمتلك مقومات طبيعية قلّ أن تتكرر: شواطئ صافية، أرض ممتدة، موقع هادئ، وطبيعة بكر لم تمسها موجات البناء العشوائي. لكن الجديد هذه المرة هو طريقة استغلال هذه المقومات. المشروع لا يقوم على بناء “كمبوند” أو “قرية سياحية”، بل على إنشاء مدينة متكاملة قادرة على العمل طوال العام.
الرؤية تتضمن مناطق سكنية حديثة، فنادق فاخرة، مرسى يخوت، كورنيش بطول يزيد عن سبعة كيلومترات، مجتمعات تعليمية وصحية، مساحات خضراء، مراكز أعمال، ترفيه، تجارة، وخدمات عامة. بمعنى آخر: مدينة قادرة على استيعاب المقيمين والزوار والمستثمرين، وليست مجرد وجهة للعطلات.
هذه النقلة الفكرية تتماشى مع ما بدأ في العلمين الجديدة ومدينة رأس الحكمة، لكن علم الروم تضيف عمقًا جديدًا، لأنها تقع في أقصى الغرب، مما يفتح بابًا لتوازن عمراني جديد على ساحل المتوسط.
لماذا قطر؟ ولماذا الآن؟
خلال العقد الماضي، تبنّت قطر استراتيجية واضحة للاستثمار في المدن الساحلية المستقبلية. من لوسيل في الدوحة إلى استثمارات واسعة في تركيا وأوروبا، تركز قطر على بناء أصول طويلة الأجل في مدن قابلة للنمو.
ومصر تمثل فرصة مثالية لأسباب عديدة:
أولًا، تكلفة الأرض في مصر تعتبر مثالية للأستثمار رغم ارتفاع قيمتها مؤخرًا. ثانيًا، انخفاض سعر العملة مقابل الدولار يوفر قوة شرائية هائلة للمستثمر الخليجي. ثالثًا، مصر تشهد تحولًا اقتصاديًا واسعًا، ومع الإصلاحات المالية المستمرة، تصبح المشاريع طويلة الأجل أكثر جاذبية. رابعًا، المنطقة تمتلك طلبًا سياحيًا متزايدًا محليًا وإقليميًا، لكن لم يتم استغلاله بالشكل الكافي بعد.
كل ذلك يجعل توقيت الاستثمار القطري في علم الروم ليس مجرد تحرك استثماري، بل خطوة محسوبة بدقة.
ماذا تربح مصر؟ أكثر من مجرد استثمار
مكاسب مصر لا تقف عند حدود الدفعة الفورية التي تدعم الاحتياطي النقدي. النموذج المالي للاتفاقية يعتمد على مشاركة الأرباح. فبعد أن تسترد قطرية الديار كامل استثماراتها، تحصل هيئة المجتمعات العمرانية على 15% من صافي أرباح المشروع سنويًا. هذا وحده يخلق مصدر دخل مستدام على مدى عقود.
إلى جانب ذلك، فإن التحول من “مشاريع موسمية” إلى “مدن مستدامة” يخلق وظائف دائمة، وليست وظائف صيفية فقط. كما أن البنية التحتية التي سيتم إنشاؤها من طرق ومرافق وخدمات سترفع قيمة المناطق المحيطة كلها، مما يعود بالنفع على سكان مطروح والساحل الغربي بأكمله.
الساحل الشمالي تاريخيًا كان وجهة للصيف فقط. بين يونيو وسبتمبر، تتحول المنطقة إلى واحدة من أكثر البقاع ازدحامًا في البلاد، ثم تعود إلى الهدوء شبه التام لباقي العام. لكن هذا النموذج أصبح غير كافٍ لبلد بحجم مصر، خاصة مع معدلات الهجرة الداخلية والاحتياج لمدن جديدة.
العلمين الجديدة كانت بداية الفصل الأول من التغيير. لكنها ليست النهاية. علم الروم تمثل المرحلة التالية. مدينة قادرة على العمل 12 شهرًا، تضم مدارس وجامعات ومستشفيات ومراكز أعمال، قادرة على جذب الأسر والشركات، وليس فقط المصايف.
ومع التحول العالمي نحو العمل من أي مكان، قد يجد الكثيرون في الساحل المصري خيارًا جذابًا يجمع بين الطبيعة والجودة والسعر.
التحديات: ما بين الطموح والتنفيذ
أي مشروع بهذه الضخامة يواجه تحديات كبيرة، بل من الطبيعي أن تحيط به أسئلة تتعلق بحجم المخاطرة ودقة التنفيذ. أول هذه التحديات هو التنفيذ نفسه. فبناء مدينة كاملة من الصفر ليس مجرد إنشاءات متفرقة، بل عملية متشابكة تحتاج لتنسيق مستمر بين كل الجهات، من البنية التحتية والطرق والمرافق العامة، إلى التخطيط العمراني، والتنظيم البيئي، وإدارة الموارد، ومرحلة التشغيل لاحقًا. كل خطوة مرتبطة بالأخرى، وأي تأخير أو خلل في واحدة قد ينعكس على المشروع كله.
أما التحدي الثاني فيتعلق بـ البيئة. الساحل الغربي يتمتع بطبيعة حساسة ونادرة، ويحتاج لتخطيط يحافظ على جماله وتوازنه. نجاح المشروع يعتمد على القدرة على دمج المنشآت الحديثة مع البيئة الساحلية من دون إضرار بالشواطئ أو بالنظم الطبيعية التي تميز المنطقة. ومع تزايد الاهتمام العالمي بالاستدامة، تصبح المشاريع الساحلية مطالبة بتقديم نموذج يحترم الطبيعة ويضمن استمراريتها.
أما التحدي الثالث فهو الطلب الحقيقي. فالمدينة لن تحقق أهدافها إذا ظلت وجهة موسمية أو مكانًا يزدهر ثلاثة أشهر ثم يهدأ باقي العام. نجاح علم الروم يعتمد على قدرتها على خلق مجتمع دائم، يجذب السكان، ويستقطب الشركات، ويخلق حركة اقتصادية وسياحية مستمرة. وهذا يتطلب خدمات متكاملة، فرص عمل، جودة حياة، وبنية تحتية تعزز الإقامة طوال العام، لا مجرد مصيف فاخر.
ومع ذلك، هذه التحديات ليست عوائق بالمعنى السلبي. هي جزء طبيعي من رحلة أي مشروع عالمي بهذا الحجم، والمهم أن الرؤية واضحة، والإطار الاستثماري، والشراكة بين الدولة والقطاع الخاص تمنح المشروع قدرة أعلى على تجاوز العقبات وتحويل التحديات إلى فرص.
ولذلك، مشروع علم الروم يتجاوز كونه تطويرًا عقاريًا. هو نقطة تحول حقيقية في التفكير الاقتصادي والتخطيطي. مشروع قادر إذا اكتمل بالشكل المتوقع أن يغيّر ليس فقط شكل الساحل الشمالي، بل موقع مصر على الخريطة المتوسطية. مدينة حديثة تعمل طوال العام، جذب للسكان والسياح والمستثمرين، وحضور أكبر لمصر كوجهة عالمية على البحر المتوسط.